جميل ان يسير المرئ وفق خطة عمل محكمة, وجمبل ان يرى النتائج تفوق توقعاته نحو الافضل, ولكن الجمال الحقيقي, هو عندما يفرغ المرء من ضغط ما ليتجه نحو تجربة اخرى. هذه الحال المتلاحقة والمتتالية, كانت السمة التي ميزت فترة ما من حياتي هذا العام, كنت منشغلا بالتفكير في ما اذا كنت سابلغ هدفي في الوقت المحدد, واذا ما سانهي مهمتي بنجاح.
العدوان الثلاثي على مصر عام 1956, لم يكن مجرد حرب نطالعها في كتب التاريخ, وانما هي حرب ضروس بيني وبين الزمن, وعلى الرغم من اني لم اهزم الزمن كما لم يهزمني هو, فقد خرجنا متعادلين فيما بيننا. العدوان الثلاثي كان عنوان البحث الذي فرض علي ان اقوم به, وفي فترة امتدت منذ بداية العام الحالي الى نهاية شهر مايو, كانت تلك هي المدة التي منحت لكي انهي هذا العمل الذي رايت فيه الكثير من الامور التي غيرت كثيرا في شخصيتي وفي تفكيري.
خلال بحثي في هذا الموضوع كنت قد ركزت على اكثر من سبعة عشر كتابا في ثلاث لغات, كانت اللغة العربية هي الاكثر مصداقية بالنسبة لي, حيث ان اللغة العبرية والكتاب الذين كتبوا عن هذه الحرب, لم يتطرقوا الى الحق المصري العربي في حريته بالعيش بكرامة ودون وصاية اجنبية ودون فرض شروط مهينة لمصر والمصريين, كما ان الكتاب العبريون لم يتطرقوا الى الحديث الداخلي والمهم بالنسبة لوجهة النظر التي تتيح للمواطن العربي فهم الامور, بل كانت جل كتاباتهم في هذه الحرب, عن الفدائيين والاعمال "الارهابية" التي كانت تقع على حدود الدولة العبرية وعن عدم منح العرب قوة عسكرية بينما كان الواقع هو ان عبد الناصر كان يبحث عن الرخاء والامان والحياة الكريمة للشعب المصري والعربي على حد سواء.
كانت المصادر الاجنبية اكثر تعلقا بمصالح الغرب بالمنطقة, فمعظم المراجع التي قراتها بالانجليزية كانت تشير الى ان عبد الناصر لا يصلح لان يكون ممثلا ومدافعا عن المصالح الغربية في المنطقة, وكانت معظم المصادر تثبت ذلك من خلال الحديث عن ارتباط الولايات المتحدة بملك السعودية وتقويته على حساب جمال عبد الناصر وذلك من اجل تقوية صورته امام الشعوب العربية ولكنها وحسب المصادر ايضا فشلت في ذلك.
المصادر العربية كانت متماشية فيما بينها على نحو واحد, وكانت المصادر العربية تمدح الرئيس جمال عبد الناصر على الدور الذي قام به من اجل العروبة والشعب المصري والعربي, سواء في فلسطين او في الجزائر. المصادر العربية كانت في معظمها تدين فرنسا وبريطانيا واسرائيل على هذا العدوان الغاشم بل ودقت ناقوس الخطر الذي يهدد المنطقة باسرها.
كان البحث طويلا وعميقا, من اكثر الكتب اثارة وتعمقا للتفاصيل في هذه الحرب, كتاب حرب الثلاثين عاما ملفات السويس لمحمد حسنين هيكل, فقد اشبع هيكل النقص الذي تواجد وتراكم عندي, وبت اعرف الكثير من التفاصيل حول تلك الحرب, ولحسن الحظ ان اول كتاب بدات اقراه لهذا البحث هو كتاب هيكل حيث تكونت لدي صورة ضخمة وكثيفة عن هذا العدوان واسرار هذا العدوان وعلى الرغم من اني لم اقرا سوى اربعمائة صفحة من هذا لكتاب الا اني كنت اكتشف في كل صفحة شيئا جديدا. باقي الكتب كانت متوسطة الحجم, وقرات منها فصولا كاملة, كانت لأشخاص عاشوا تلك الحرب مثل بن غوريون الذي ذكر اسباب الحرب وكأنها اسباب تتعلق باسرائيل وليست اسبابا تتعلق بكرامة العرب.
التشويق كان المحرك الذي مدني بالطاقة والنشاط لأسهر ليال طويلة حتى الصباح, اقرا واراجع التفاصيل وادون المجريات والتواريخ والاحداث والشخصيات والمقولات والتصريحات والتطورات في تلك الحقبة من الزمن. كنت قد اشتريت كمية من الشوكولاتة, والتي ساعدتني على التفكير بصورة افضل, وعندما احصيت عدد الالواح التي اكلتها وصلت الى اكثر من ثلاثين لوح شوكولاته كنت اتناول ربع لوح تقريبا بالمعدل. كما اني اكتشفت ان السهر على البحث هو امر مفيد جدا, فبغض النظر عن الهدوء والتركيز التام, وجد ان البقاء مستيقظا حتى الشروق, يتيح لي ان اصلي الفجر بسهولة ودون ان انهض من نوم عميق.
عندما حان موعد تسليم البحث, كان الجميع قد انتهى منه تقريبا, وكان يلزمنا ثلاثة او اربعة ايام حتى ننهي اللمسات الاخيرة ونسلم البحث جاهزا. انا كنت من أولائك الذين تاخروا بضعة ايام, ولكننا في النهاية انهينا البحث الذي اخذ اكثر من اربعة اشهر تقريبا لينتهي. في النهاية حصلت على علامة عاليا جدا, وبالرغم من ان كل العمل كان باللغة العبرية الا اني تفوقت على الكثيرين من اليهود انفسهم وحصلت على علامة خمس وتسعون. ولو ان المديرة انذاك لم تكن عنصرية لكنت حصلت على عشرة علامات اضافية لاني قدمت بحثا مطولا, ولكنها ادعت اني لست كفؤ لأحصل على العلامات الاضافية. خرجت من العدوان الثلاثي لآدخل الى حرب حول العلامات الاضافية, لكني خسرت المعركة وبقيت على خمس وتسعون. كثيرون من الذين يتعلمون معي ابدوا اسفهم على تعجرف المديرة وعلى هذه البيروقراطية العمياء, شباب وبنات من اليهود قبل العرب, استغربوا هذه العجرفة من المديرة التي لم تخسر ولن تخسر شيء اذا اعطتني علامات اضافية انا في الحقيقة استحقها, لكنها كانت اقوى من كل المعارضين, ولكن لا باس بخمس وتسعون. حينها عرفت ان العدوان كان معركة واحدة, اما المعارك القادمة فهي كثيرة جدا, بعضها عامة واكثرها شخصية, ومن ذاك المنطلق تغيرت نظرتي للمديرة التي لم تمنحني تلك الفرصة ولكني بالمقابل تعلمت درسا قاسيا, اربعة او خمسة اشهر وربما اكثر, وفي النهاية وضعت في خانة من قدم بحث متوسطا على الرغم من ان علامتي ضمن اعلى خمس طلاب في الصف.
No comments:
Post a Comment